حاضرون غائبون: الفلسطينيون في الداخل(٢)
كنا نمشي بمحاذاة الشاطئ اليافاوي وقد أدرنا ظهرنا لتل ابيب. وجهتنا يافا والفنادق الفاخرة تمتد على يسارنا وكأنها أسود رابضة. خلفها كان يقع حي المنشية الذي ولد فيه ابو حسن. لا يعرف ابو حسن الحي جيداً حيث كان قد أكمل سنواته الخمس الأولى عندما غافلته النكبة. لكنه يتحدث عن الحي وكأنه قضى كل شبابه فيه.
” اصبحت الصباحات بائسة فأنت لا تعرف من سيأتي للعب من رفاقك في اليوم التالي ومن سيذهب إلى الغيب. أراد أبي الرحيل وقال لأمي بأنه علينا الذهاب إلى لبنان حتى تهدأ الأوضاع لكن أمي كانت عنيدة ورفضت. كانت حبلى في شهرها السابع أو الثامن وقالت إنها لا تريد أن تلد على قارعة الطريق ولا تفضل أي مدينة أخرى على يافا وإذا كان أبي يريد الرحيل فليرحل هو. كانت تلك أول مرة أسمع فيها أمي تعاند أبي.“
هذا العناد انقذهم، يقول أبو حسن، لكنه يسهب في الحديث عن خطر البقاء ويصف حال الفلسطينيين في الداخل وخاصة في المدن المختلطة التي تعاني الكثير منها من مشاكل إجتماعية وسياسية، (يصف) حالهم بأنه حال ركاب سفينة تعوم في البحر منذ النكبة ولا تجد ميناء ترسي عليه، فأرضها بحر، كما يقول.
تعاني الكثير من الأحياء اليافاوية العربية من مشاكل وقصور في البنية التحتية وفقر وانتشار للمخدرات والجريمة وحتى من عادات متخلفة مثل ما يسمى بجرائم الشرف. ويرى ابو حسن والكثير من فلسطينيي الداخل عند الحديث معهم عن اوضاعهم السياسية والإجتماعية بأن السلطات الإسرائيلية لا تقوم بما يكفي بغية القضاء على هذه العادات مما يجعل السيطرة على المجتمع الفلسطيني في الداخل أسهل، فالمجتمع الذي يضطهد نفسه يسهل اضطهاده. فعلى سبيل المثال تقوم السلطات الاسرائيلية بإصدار أحكام سجن مخففة على مرتكبي جرائم الشرف، وعقد، ما يطلق عليه مصطلح، ”صلحة“ بين الفتاة التي تشتكي ضد أهلها وتتحدث عن تهديدها بالقتل وإعادتها إلى عائلتها في بعض الحالات على الرغم من أن الشرطة تدرك بأن الفتاة مهددة بالقتل، فيتم أخذ تعهد من أهلها بعدم المساس بها، الأمر الذي لا يحدث في الكثير من الأحيان.
”ليس كل شيء منهم فنحن أيضا نتحمل مسؤولية التخلف الذي نعيشه. إنظري إلى عدد الأعضاء العرب في الكنيست بالكاد يصلون عشرة في حين يمكننا أن نحصل على أكثر من عشرين. لا أعرف إلى متى سيبقى حالنا هكذا؟ فنحن صبرنا كثيراً لكني أخاف على هؤلاء الصغار لأن صبرهم قليل. لو قامت حرب مرة أخرى وكان في تهجير لن تخرج الأغلبية كما حدث في ال48. الناس رأت ما حدث مع من خرج. إنظري إلى أوضاع اللاجئين في البلاد العربية! إذا كان الذل لا محال منه فليكن في بلدنا.“
كان أبو حسن يقول هذا الكلام وينظر إلى حفيده إيميل الذي كان يستمع إلى جده بعينين بدا أنهما تتسعان أكثر وأكثر وكأن صاحبهما يحاول إستيعاب ما يقوله الجد بكل حواسه. كان إيميل يصغي أكثر مما يتحدث وعندما سألته عما اذا كان يشاطر رأي جده قال أنه لا يعرف إن كان سيظل في يافا. فهو يريد الدراسة في أوربا وسيرى بعدها فربما يعود إلى يافا لكنه لا يحب الأزقة والبيوت الآيلة للسقوط والشوارع المتسخة. كانت مشاعر اميل تتأرجح بين الإعجاب بالآخر والمعاناة من اضطهاده له. أشعل ابو حسن سيجارته وأخذ منها نفساً عميقاً وكأنه يريد أن يحبس غضبا يتزاحم بين ضلوعه على حفيده وبدا عليه وكأنه يستغرب أقواله. وقال وفي صوته بحة من الحزن:
” هؤلاء الشباب قسم منهم يريد أن يكون مثل الإسرائيلين. يريدون أن يكونوا ما توهمهم إسرائيل وتوهم العالم بأنها تمثله. يعتقدون أنها تابعة لأوربا وأنها أفضل من العرب. يريد حفيدي أن يكون اشكنازياِ لكنه سيعود ادراجه عندما يعرف أنه لا يمكن لنا أن نكون اشكناز مهما حاولنا. سيضربوه ضربات توجعه بالقلب إلى أن ينزف ويعود... ليعرف أن هناك الكثير من البلاد الجميلة في هذا العالم لكننا نحن الذين تربينا هنا لا يمكن إلا أن نعود!ورثنا إرثاً ثقيلاً ليس فلسطين، بل قضية إنسانية إسمها فلسطين.“
تبدو يافا لي عندما ازورها كهيكل عظمي طار اللحم عنه ولم يبق عليه إلا الجلد حوله فلا تعرف ما اذا كان هذا شخص يحتضر ام مات. لا يزال المشهد الثقافي العربي ضعيفاً على الرغم من أن هناك محاولات عنيدة من جمعيات أهلية تحاول النهوض بحال أهلها، إلا أن إمكانياتها تبقى غالبا محدودة ومجهوداتها فردية.
المقارنة بين وضعين أو فترات تاريخية لا تبدو لي شخصياً دائما مجدية، ولكن هنا وعند الحديث عن الوضع التعليمي والثقافي في يافا تبدو المقارنة ضرورية. وذلك ليس بهدف البكاء على الأطلال بل من أجل معرفة ما كان، لكي نتمكن من خلق ما يجب أن يكون. قبل النكبة، كانت يافا تعد أحد المدن الرئيسية للطباعة في فلسطين حيث كانت تصدر وتطبع فيها العديد من الصحف والمجلات الفلسطينية. أما المدارس فوصل عددها إلى اكثر من سبعة واربعين مدرسة، تسع عشرة مدرسة منها كانت مختلطة وإحدى عشرة للبنات وسبع عشرة للبنين. أما تجارتها فوصل صيتها إلى خارج حدود الشرق الأوسط ليكون البرتقال الشموطي اليافاوي علامة فارقة ورمزاً من رموزها إضافة إلى أنواع الحمضيات الأخرى. وجود مينائها ساعد على إحتلالها موقعاً رئيسياً في التجارة الداخلية والخارجية. فالمدينة رعت عدة صناعات من أهمها صناعة البلاط والأسمنت والسجائر والورق والزجاج وسحب الحديد والملابس والنسيج.
بدا التعب على وجه ابو حسن ولم اعرف إن كان مشينا الطويل ويومنا المرهق هو الذي اتعبه أم ان الحديث عن البلد هو الذي اظهر إحتقانا في وجهه، لأفكار سوداء دارت في باله ولحاضر ما زالت ارضه بحراً كما يقول. إقترحت عليه أن نمشي إلى لمحطة القادمة القريبة على بعد خمس دقائق أو أن نأخذ سيارة أجرة. لكنه رفض وقال:
” أنا أعيش اليوم ولا ادري إن كنت سأعيش للغد واقطع الطريق كل يوم مشياً كي أرى البحر. فما زال البحر جميلاً ولم ينشف!“ يقولها أبو حسن ويخرج ضحكة مجلجة فيها من الطفولة ما يفاجئك وسرعان ما يقول لي دعنا نتحدث عن الأشياء الجميلة في يافا. واسأله عن الجميل بالنسبة له في يافا؟
” اولاً إسمها! وبحرها وأهلها. فما زال بالناس خير رغم الأوضاع الصعبة إلا أن الحياة لا تحمل فقط الهم والتعب فالكثير من الأمور تحسنت. اليوم اصبحت الناس أوعى بما يحدث حولها والكثير من البنات اصبحن يعملن ويعشن كما يرغبن. ليس عند الجميع ولكن الأمور قابلة للتغير ولا يبقى أي حال على حاله. خسرنا الكثير ولكن لم نخسر كل شيء... اوضاعنا صعبة ولكننا عنيدين كهذا البحر، الذي لن يتوقف عن رطم موجه على الشاطىء.“
كأن أبو حسن يقول هذا الكلام بصوت ثابت وواثق ويرويه على مسامع حفيده وكأنه يخاف عليه من أن يغادر ولا يعود. كان البحر يهدر ويهدر وكأنه منزعج من أننا غرقنا كل في عالمه ولم نعد ننظر اليه. وصلنا إلى حي العجمي لكي نجلس في أحد مطاعم السمك التي تكثر هنا وكان الجوع قد نال منا. همس ابو حسن في اذني أن ليس كل مطاعم السمك تقدم سمكاً بحرياً، بل أن البعض يشتري سمك البرك. نظر ابو حسن إلى احد تلك المطاعم وحرك رأسه ذات اليمين وذات الشمال متمتماً ”إخس عليكو، مش عيب يافاوية ويشتروا سمك البرك، كيف الناس بتاكل سمك البرك هذا والله انا ما بدري!.“
قالها ورفع حاجبيه ويده في حركة إلى الأعلى فبدا وكأنه يشاكس الريح التي كانت تدور من حولنا. دخلنا إلى أحد المطاعم وما إن جلسنا حتى كانت المزات في إستقبالنا. احتضننا هرج الندل وأصوات الضيوف وبقبقة الأراجيل من حولنا وامتد البحر اليافاوي أمام نواظرنا. إبتسم أبو حسن وقال ” على الرغم من كل البؤس وكل ما جرى والأوضاع الصعبة التي نعيشها في بلدنا والتي تجعلني أحياناً أشعر بأن وجودنا هنا نقمة، إلا أنني أحياناً افيق وأرى بأنني في يافا فأشعر بالنعمة لأنني هنا والفضل يعود لعناد أمّي.“
[اضغط/ ي هنا للجزء الأول]